قطوف من واقع الحياة


يوم في حياة طالبة جامعية ....!

 تاريخ النشر: 27 شباط 2007

كتب محمد خالد  

" أنا فتاة حرة... أجلس كيفما أريد وأفعل ما يحلو لي، ولا حق لك بالتدخل بشئوني الخاصة... ألا يكفيكم ما اوصلتمونا اليه ...!؟.. كلمات نارية انطلقت من حنجرة فتاةٍ استقلت ذات السيارة العمومية التي انطلقت بنا من مدينة بيت لحم متجهة الى رام الله، في ردها على أحد الجنود الاسرائيليين حيث أمرها بطريقة أشبه ما تكون بالهمجية والاستفزازية بأن تنزل رجلها -التي كانت تضعها على رجلها الأخرى - وأن تجلس "في حضرته" بطريقة يجدها أكثر احتراماً، الأمر الذي اعتبرته تدخلاً سافراً فاق الحدود ودفعها للرد عليه بعفوية وبطريقة تليق بذات همجيته.

لم يتوقف الحال عند تلك الفتاة، بل بدأ الجندي يطلق لنظراته العنان علها تستقر على احد ركاب السيارة ليجد فيه ضالته المنشودة لطرح ما يخطر بباله من أسئلة جارحة وتعليقات لا مرمى لها سوى السخرية وإثارة الاستفزاز..... استقر نظره على شابٍ جالس بجواري كان يرتدي نظارة طبية، فخاطبه بابتسامة ساخرة وبلغة عربية ركيكة ومألوفة: " انت، يا أبو أربع عينين... ناولني هويتك يا شاطر...!" ، فما كان من هذا الشاب الا أن أخرج بطاقة هويته بسرعة دون ان ينبت ببنت شفة تفادياً لأية فرصة قد يغتنمها الجندي بإخراجه من السيارة، او توقيفه لبضعة ساعات على الحاجز قبل ان يأذن له بمواصلة المسير، أو توجيه بعض اللكمات اليه.

في المقعد الخلفي للسيارة كان يجلس ثلاثة رجال، أحدهم وضع على أذنيه سماعات صغيرة لمذياع متنقل، فالتقطها الجندي وألقاها خارجاً بينما قال باستخفاف:" منذ متى وصلتكم هذه التكنولوجيا يا دواب....!" ثم انتقل الى الرجل الجالس بجانب النافذة في المقعد الخلفي أيضا، وسأله عن مبتغاه من ذهابه الى رام الله، فأجابه بأنه موظف في السلطة الفلسطينية، عندها اقترب منه الجندي وقال باستهزاء: "عن أية سلطة تتحدث ؟ ... عن السلطة الحاضرة الغائبة ..؟".

انتهى الحديث بعد أن أغلق الجندي باب السيارة بقوة كبيرة بينما كان يردد بالعبرية"ساع، ساع"، وتعني "هيا اذهب، انطلق". عبرنا ذاك الحاجز- المقام على طريق وادي النار والمعروف بحاجز الكونتينر- والجميع صامت.. لم يتفوه أحد من الركاب بشيء.. لم أسمع كلمة احتجاج أو صرخة غضب أو حتى آهة سخط أو تذمر، وكأنهم اعتادوا على تلك الممارسات أو لعلهم كانوا يدخرون غضبهم وردة فعلهم العنيفة لموقف أكثر صعوبة وأشد قسوة من الذي مروا به ....! لم يكن ذلك الحاجز نهاية المطاف، فبعد نصف ساعة من عبوره، وبينما أوشكنا على الاقتراب من "حاجز قلنديا"، ظهر بطريقنا حاجز عسكري آخر من تلك التي عرفت بالحواجز الطيارة التي ينصبها جنود الاحتلال بين الفينة والأخرى... عشرات السيارات اصطفت على ذلك الحاجز الذي بدا وكأنه طابور نمل كل واحدة فيه تنتظر دورها بفارغ الصبر كي تلقي ما حملته على كاهلها من أحمال ثقيلة، في حين كان بعض الجنود يتناولون طعامهم في هدوء وسكينة وكأنه لا هم لهم غير ذلك، وآخرون يشرفون على تشغيل الحاجز ببطء شديد وفقأ لمزاجيتهم المعهودة.


طلاب يعانون في طريقهم للوصول بالموعد المحدد لمدارسهم وجامعاتهم، موظفون يجاهدون ايضا للوصول لمقار عملهم، أمهات حوامل في طريقهن للمشفى، مسنون يأتون بأحمالهم، حالات طارئة تستدعي التدخل السريع، وطفل يحمل شقيقه الرضيع ويطوف به جيئة وذهابا عل ذلك يجدي نفعا بتوقفه عن البكاء والصراخ.... بائعو القهوة والحلوى والسحلب وبسطات منتشرة هنا وهناك على جانبي الحاجز .... كلها مظاهر تجدها عندما تعبر الحواجز الاسرائيلية التي تميزت بتنوعها وانتشارها على كل الطرقات والمداخل، وأضحت حائطا ثابتا في وجهنا كفلسطينيين، ليس ذلك فحسب، بل ان مسماها بالعبرية "محسوم" قد طغى على السنتنا واستبدلنا به المسمى العربي... عليها نرى كل أساليب التمرد والعنجهية من قبل الجنود الاسرائيليين بهدف كسر ارادتنا وتثبيط معنوياتنا وإذلالنا، من خلال التضييق علينا في جميع مناحي حياتنا، اقتصادياً واجتماعياً ودينياً، وسط ادعاءات اسرائيلية عهدناها وحفظناها عن ظهر قلب تبرر وجودها تحت مظلة "الاحتياطات الأمنية ".

"سيارة تعبر الحاجز كل خمس دقائق، إذاً سوف نصل غدا بإذن الله"... تحدث أحد الركاب بينما كان ينظر الى ساعته متململاً فيما نحن ننتظر دورنا للمرور عبر الحاجز، فرد عليه السائق قائلا:" لم يعد بامكاننا تنظيم برنامجنا اليومي... وقتنا وحياتنا كلها أصبحت في أيدي الاسرائيلين، يتحكمون بنا ويحركوننا كعقارب الساعة بحسب توقيتهم وليس بحسب توقيتنا ". وما كاد السائق ينهي جملته تلك حتى بدأت طوابير السيارات بالتحرك بشكل متواصل وبدون توقف، ففرح الجميع بذلك فيما بدا وكانها غيمة سوداء حجبت ضوء الشمس لوهلةٍ ثم ما لبثت ان انقشعت فجأة وتبدد سوادها، وعادت الشمس لتنثر ضياءها ودفأها من جديد، وعاد السائق ليستكمل حديثه قائلا: " كل الفلسطينيين تحت رحمة أمزجة الجنود، تارة يشددون وتارة يسمحون بالمرور.. فكل شيء متوقف عليهم وعلى مزاجيتهم".

اجتزنا حاجز قلنديا، وواصلنا السفر الى ان وصلنا لدوار المنارة وسط مدينة رام الله، حيث انطلق جميع الركاب كلٌ الى وجهته فيما استكملت مسيرتي الى بيرزيت آملة بألا يعترض طريقي حاجز آخر على طريق "صردا". وصلت الجامعة وتوجهت فوراً الى المحاضرة بعد أن فاتتني محاضرة قبلها، واستكملت نهاري الدراسي في الجامعة الى ان حان موعد عودتي عند الرابعة بعد الظهر.

ربما تكون رحلة انطلاقي من بيت لحم مرورا برام الله ثم بيرزيت -رغم مشقتها- نزهة قصيرة إذا ما قورنت برحلة العودة لبيت لحم، فبعد أن انتظرت نحو ساعة كاملة في مجمع السيارات في رام الله الى ان امتلأت السيارة بالركاب، كتب لي ان أظل أسيرة في السيارة لساعة كاملة أخرى على حاجز قلنديا وسط حالة من الخوف الشديد سادت بسبب قذف الحجارة واطلاق قنابل الغاز، إثر اشتباكات دارت في تلك الساعة بين أبناء مخيم قلنديا وجنود الاحتلال، وبعدها تمكنا من الفرار بعد عناء كبير. ووسط جو من الهدوء التام ساد انحاء السيارة، وصلنا ثانية الى "حاجز الكونتينر"، واستفقنا على كلمات اطلقها السائق بتذمر وعصبية، بينما كان يهم للترجل من السيارة كي يستطلع الأمر:" لا لا لا، تبا لهكذا يوم... ثلاث ساعات ذهابا، ومثلها اياباً خلال نقلة واحدة.... ما الذي يجري...!؟".

قديما قالوا بأن "شر البلية ما يضحك "، وهذا ما حصل بالفعل عندما ادركنا انه تم اغلاق الحاجز تماما ومنع أيٍ كان من المرور عبره سواء مشيا على الاقدام او بالسيارة... ضحكنا ... ولكن لم يكن أمامنا من خيار سوى أن نعود أدراجنا من حيث أتينا صباحا " الى بيت لحم "، وما هو مطروح امامنا فقط هو أن نسلك الطريق الجبلية الوعرة مشيا على الاقدام كي نتجاوز الحاجز، ومن هناك نستقل سيارة اخرى في الجانب الآخر من الحاجز لتنطلق بنا عائدة الى مرمانا الذي نبتغي الوصول اليه ..... وهذا ما فعلناه، بدأنا السير فيما كنا نرى الركاب يترجلون من السيارات الاخرى ويتخذون ذات الخيار الذي اتخذناه بينما عادت السيارات التي أقلتهم الى حيث أتت فاقدة الامل بفتح الحاجز.

ما أثار سخريتنا هو أن الجنود على الحاجز- الذي أغلق فجأة ودون سابق إنذار- كانوا يشاهدون بأم أعينهم ركاب السيارات وهم منطلقين في تلك الطريق الوعرة دون ان يحركوا ساكنا او يتفوهوا بكلمة، ما يدلل على ان خطوتهم بإغلاق الحاجز لم تأت سوى لتعذيبنا وإذلالنا، الامر الذي يدخل البهجة والفرح لقلوبهم الصدأة.

"مغلق" أو "مفتوح"...... وجهان مختلفان لعملة واحدة حديثة اسمها " الحاجز الاسرائيلي"... وعلى كل وجه نقشت عبارة واحدة هي " قف يا فلسطيني، وخذ جرعتك من الإذلال والمهانة"... ترى، هل تنجح هذه العملة في شراء كسر إرادتنا أو تثبيط عزائمنا أو حتى... إذلالنا ....!؟


----------------------------------------------------------------------------------

عاد للظهور من جديد في سوريا زارعا الفرح في قلب عائلته
بعد اختفائه لنحو 37 عاما واعتباره في عداد الموتى

تاريخ النشر: 07 كانون أول 2006 

كتب محمد خالد
عاد الى الحياة بعد وفاته ... هذه ليست احجية بل حقيقة تأكد وقوعها في اطراف قرى نابلس الشرقية... بيت عزاء فتح قبل نحو 37 عاما لفلسطيني اختفى في العام 1970، وتبين قبل يومين فقط انه على قيد الحياة في أحد السجون السورية في مدينة اللاذقية. احمد محمود الشايب، من قرية روجيب في منطقة نابلس، اختفى منذ 37 عاما تاركا خلفه أربعة اولاد وأربع بنات، أشرف الاهل على تربيتهم بينما ترعرعوا على حقيقة واحدة... أنهم ايتام... وزوجته توفيت قبل سنوات.

إتصال هاتفي ورد للعائلة جلب في طياته شذرات الفرح، وفتح معه صفحة جديدة أمام حقائق كانت غائبة عنها طوال سنوات، وبدد تساؤلات حول مصير "الشايب " الذي اضحى اليوم في السبعينات من عمره .... أبناؤه لا يعرفونه، وقد تزوجوا جميعا وأصبحوا آباءً وأمهات ... جميع أفراد الأسرة باتوا متوترين ولا يعرفون الجهة التي يجب التوجه اليها للسؤال عنه بعد أن عُرف مكانه.

شقيقته الصغرى حدثتنا قائلة :" اصبحنا متيقنين بعد اختفائه أنه مفقود، وقتل في (الشريعة)، وقد استخرجنا له شهادة وفاة .... ولكن كانت تردنا أخبار كل عام تؤكد أنه موجود في أحد سجون سوريا وفقا لما اشار اليه بعض المسجونين ممن كانوا معه وتم اطلاق سراحهم ". وأضافت :" قبل يومين، تلقينا اتصالا هاتفيا منه أبكانا جميعا، حيث تحدث خلاله مع أختي وإبنه ايضا ". أحد افراد الاسرة أكد ان الاتصال حقيقي، وقال :" عندما عرفنا بأنه موجود لم ننم ولم نستطع أن نتصور حقيقة انه حي وقابع في السجن بينما هو في نظرنا ميت ".

بقية افراد العائلة لم يصدقوا ذلك في بدايته...وقال "الحاج محمد"- نسيبه - انه تلقى اتصالا هاتفيا قبل يومين وتحدث معه ولم يكن مصدقا لما حصل. " يوم السبت الماضي، وبينما كنت جالسا أتابع اخبار قناة الجزيرة، رن جرس الهاتف، واذا بالمتكلم يقول : مرحبا ابن عمي، أنا احمد الشايب. فقلت له : كيف ذلك وأحمد مفقود منذ زمن ليس بقريب، ولم نسمع عنه شيئاً ..ّ؟ قال لي : انا موجود في اللاذقية في سوريا". وتابع الحاج محمد قائلا: " اعتبرت ان احدهم يمازحني ولذلك لم آخذ الامر بالحسبان ولم اقتنع به مطلقا.... وقد طرحت على المتكلم بعض الاسئلة المتعلقة بعائلته للتأكد من حقيقة انه أحمد، فرد علي في النهاية قائلا أنه لا يوجد وقت للتحدث الآن، وأنه سيعاود الإتصال بي غدا". وفي اليوم التالي عاود الاتصال مرة اخرى وتحدث خلاله عن امور مهمة وكشف عن انه وصل لسوريا بعد أن ضل الطريق الى الحدود السورية في اعقاب إبعاده من قبل الاسرائيليين، ما عزز الأمر بأنه حقيقي.

ابنه البكر والبالغ من العمر 36 عاما، قال :" تبين من رسائل بعض الناس انه (الشايب) موجود في سجون سوريا". وتابع قائلا :" قالوا لي منذ صغري ان ابي توفي وانني يتيم بينما احساسي كان مخالفا ... احساسي ان ابي موجود ... اما أمنيتي الآن فهي ان يفرج عن والدي وعن جميع الاسرى في السجون في العالم.. واناشد الرئيس السوري ان يعمل على اطلاق سراحه