الى متى: تقارير طبية كاذبة وشهادات خلو من الامراض بدون فحص ..؟!

مدير تحرير PNN يكشف قضية فساد في مديرية صحة بيت لحم

تحقيق/ محمد خالد موسى
مدير التحرير في شبكة فلسطين الاخبارية

 20-07-2011
عندما تطلب منك جهة او مؤسسة ما، سواء كانت محلية او أجنبية، اثبات خلوك من اية امراض سارية معروفة، فهذا امر طبيعي لا غرابة فيه، وكأنها بطلبها هذا تقول لك: "اذهب وافحص نفسك لدى طبيب معتمد من وزارة الصحة واحصل على شهادة مصدقة منها تثبت لنا بأنك سليم معافى، ولا يعتري صحتك اية علة تبعث على القلق... وفي ذلك منفعة لك ولنا على حد سواء"، .. ولكن.....

اذا حصلت على تلك الشهادة مصدَقة من وزارة الصحة وموقعة ومختومة من طبيب معتمد لديها، وقام باصدارها خلال ساعات دوامه الرسمي في مديرية الصحة دون ان يكلف نفسه عناء فحصك، متقاضيا منك مقابل ذلك 50 شيكل دون ان يعطيك وصلا رسميا بالمبلغ، فهذا أمر غير طبيعي وخارج عن المألوف.

سماسرة في كواليس مديرية الصحة
هذا ما حصل معي شخصيا يوم السادس من تموز الجاري، في مديرية صحة محافظة بيت لحم، حيث كنت بصدد استصدار شهادة خلو من الامراض لأحد ابنائي، مازن (16 عاما)، بناءً على طلب ادارة مدرسة خاصة يود الانتقال اليها مع مطلع العام الدراسي القادم.

توجهت مصطحباً إبني مازن لمديرية الصحة للاستفسار بدايةً عن كيفية ومكان استصدار هذه الشهادة، فجاءني الرد: "لدينا هنا، في الطابق الثاني..."، وفي الطابق الثاني حيث صعدت، لم يكن الطبيب المخوّل باجراء الفحص الطبي واعطاء الشهادة موجوداً بل يحتاج الى نحو ساعة للمجيء، بحسب ما قاله لي احد موظفي المديرية والذي طلب مني تزويده باسم ابني الكامل وبتاريخ ميلاده، والعودة بعد ساعة لاستلام الشهادة جاهزة؛ موقعة، مختومة ومصدقة... وطبعا مع تأكيده على ان اجلب معي 50 شيكل لدفعها عند الاستلام.

بعد نحو ساعة عدت الى مديرية الصحة لأجد ذات الموظف يستقبلني حيث التقيته في الطابق الثاني، قائلا:" الشهادة التي طلبتها جاهزة... لقد أتى الطبيب بعد مغادرتك وقام بتجهيزها وتوقيعها وختمها". ومد يده الى احد الجوارير فأخرج منه مغلفا وسلمني إياه، فقمت انا بدوري باخراج الشهادة من المغلف لأطلع على تفاصيل ما ورد فيها. وبينما سلّمت الـ 50 شيكل للموظف -الذي لم يبدي اية بوادر لاعطائي وصلاً بالمبلغ- سألته عما اذا كان الطبيب الذي قام باصدار هذه الشهادة معتمد فعلا من قبل وزارة الصحة، فأكد الموظف هذا الأمر بالاشارة باصبعه الى توقيع الطبيب على الشهادة وختمه الذي يحمل اسمه، بالاضافة الى ختم وزارة الصحة.

تساؤلات مشروعة .....
في تلك اللحظة، وكأنها سيلٌ جارف بكل ما تحمله بين ثناياها من ريبةِ واستهجان، تدفقت جميع التساؤلات التي اعتمرت في داخلي منذ ان التقيت ذاك الموظف في المرة الاولى وطلب مني تفاصيل ابني ودوّنها جانباً. تساؤلاتٌ دفعتني نفسي لطرحها واثارتها حينئذٍ ولكني فضلت السكوت وعدم استباق الامور حتى أرى بأم عيني حقيقة ما يجري...

 كيف يمكن لطبيب ان يصدر، عن بعد، شهاد خلو من الأمراض لشخص دون حتى ان يراه، ودون ان يعطي تعليماته بالكشف عليه او اجراء الفحوصات اللازمة له، او ان يضطلع هو شخصيا بذلك.. فقط مجرد تعبئة بياناته الشخصية على ورقة مطبوعة وجاهزة مسبقا ولا ينقصها بعد ذلك سوى الختم والتوقيع ..؟!
واذا كان الحال هكذا، من سيضمن لي ان الطالب الجالس بجانب ابني في ذات المدرسة التي سينتقل اليها، لا يعاني من اية امراض معدية تستوجب رعاية خاصة ...؟
ومَن سيضمن لأهالي الطلبة الآخرين أن ابني سليم معافى ولن يكون سببا في نقل عدوى مرضِ لزملائه وأقرانه ؟
 وأين هي مصداقية الطبيب تجاه المدرسة او الجهة التي طلبت هذه الشهادة واعتمدت عليه في سلوك الاجراء المناسب قبل اصدارها والمصادقة عليها...؟
وأين هي مصداقية الطبيب تجاه نفسه واخلاقيات مهنته التي أقسم يمين الالتزام بها، وتجاه وزارة الصحة التي اعتمدته تحت مظلتها وأجازت له ممارسة مهنة الطب، وأتاحت له العمل بمؤسساتها ومديرياتها ...؟!.
وأين هم المسؤولون في وزارة الصحة والذين من المفترض ان يتحروا ويتابعوا سير عملية تقديم الخدمات الطبية للمواطنين...؟
وهل ما جرى أمامي لا يعدو كونه مجرد حادثة فردية لا تستدعي كل هذا القلق، أم ان هناك في كل مديرية صحة بكل محافظة، سماسرة يصولون ويجولون في كواليسها، يخالفون قوانين واعراف مهنة الطب، ويدسّون الدراهم في جيوبهم بمنأى عن بصر وسمع مدرائهم ومشغليهم ..؟!


ممسكاً بالشهادة بين يديّ ومتمعناً بما احتوته سطورها من تفاصيل، انطلق لساني بسؤال الموظف: ".. وكيف عرف الطبيب، وبدون ان يقوم باجراء اي فحص، ان ابني الواقف امامك سليم معافى، وخالٍ من اية امراض معدية او سارية" ؟؟ فرد الموظف والابتسامة ترتسم على شفتيه بينما نظراته تشق طريقها لوجه إبني: "سيماهم في وجوههم يا رجل..."، وعندما استفسرت عن مصير الـ 50 شيكل والى اي جهة ستذهب، رد قائلا: " لا اعرف .. ليس لدي فكرة"..وعندما سألته عما اذا كان هذا هو الاجراء المتبع مع كل من يريد الحصول على مثل هذه الشهادة، رد بسؤال تغلفه الحدّة :" هل تريد الشهادة ام لا ..؟" فقلت: "طبعا اريدها"... واخذت الشهادة... وانصرفت.

نعم.. لقد اخذت مبتغاي بحصولي على تلك الشهادة لإبني، موقعة من طبيب معتمد من وزارة الصحة ومصدّقة من قبلها، وهذا بالنسبة لي ولأي مواطن عادي يعتبر انجازاً على طريق اتمام الاوراق والوثائق التي تطلبها جهات او مؤسسات معينة.. ولكن، ما حصل معي يحمل في جعبته الكثير من الاستفسارات والتساؤلات التي نفهمها وندركها جميعا، ولا تحتاج منا الى اعادة طرح بقدر ما تحتاج من الجهات المعنية ممثلة بوزارة الصحة وديوان الموظفين العام في السلطة الفلسطينية الى متابعة وتحقيق وتصويب لأوضاع لا يقبل بها الا المنتفعون من وجودها واستمراريتها.

تصرف غير قانوني ويستوجب اجراء تحقيق

هذه الحادثة وما تحمله من ابعاد خطيرة، لاقت استياءً واستهجاناً في نفس مدير مديرية صحة بيت لحم، الدكتور محمد عيسى رزق، الذي طلب مني شخصياً التقدم بشكوى رسمية له بشأن ما جرى ليرفعها بدوره الى وزارة الصحة وبالتالي عمل التحقيقات اللازمة واتخاذ الاجراءات وفق القانون. وهذا ما فعلته بالضبط، حيث ارفقت الشكوى التي قدمتها مكتوبة للدكتور رزق، يوم الاثنين 11/07/2011، بنسخة مصورة وملونة من الشهادة التي تحمل التفاصيل الكاملة للطبيب الذي اصدرها.

الاستياء والاستهجان واللاقبول وجدت طريقها ايضا الى نفس الدكتور أسعد الرملاوي، مدير عام الرعاية الصحية الاولية بوزارة الصحة، الذي شدد –خلال مقابلة معه- على أن ما جرى غير قانوني على الاطلاق ويستوجب اجراء تحقيق بشأنه، قائلا:" في حال وصلت الينا شكوى رسمية بهذا الخصوص فاننا سنقوم باجراء التحقيقات المطلوبة، وتشكيل مجلس تأديبي او مجلس ضبط يضم وزارتي الصحة والعدل وديوان الموظفين العام، من أجل اتخاذ القرار المناسب وفق النظام الداخلي، حتى لو أدى ذلك الى فصل الطبيب او الموظف المخالف من العمل".

واشار د. الرملاوي الى ان القانون يحظر اصدار أية ورقة او تقرير بإسم اي موظف يعمل في مديريات الصحة خلال فترة دوامه الرسمي، مؤكدا: "نحن في وزارة الصحة لا نصدر شهادة خلو من الامراض ولا نقوم بالتصديق على محتواها ولا نتحمل مسؤولية هذا المحتوى، بل نصدّق على ان الطبيب الذي اصدر هذه الشهادة معتمد ومرخص لدينا، وذلك مقابل رسوم تصديق لا تتعدى 10 شواقل للشهادة التي تُطلب لجهات داخلية، و30 شيكل للشهادة الخارجية، وطبعا مع وصل رسمي بالمبلغ".

وزارة الصحة تنأى بنفسها عن تحمل المسؤولية
تأكيد الدكتور الرملاوي على ان وزارة الصحة لا تتحمل مسؤولية محتوى شهادات الخلو من الامراض التي يصدرها الاطباء، دفعني لتوجيه السؤال مباشرة لوزير الصحة، د. فتحي ابو مغلي، حول ضرورة انتهاج آلية معينة تضطلع وزارة الصحة بموجبها بمسؤوليتها الكاملة ازاء ما يصدره الاطباء من هذه الشهادات، فرد الوزير ابو مغلي قائلا: " نؤمن ان الاطباء ملتزمون بأخلاقيات المهنة وبمدونة السلوك وبالتالي فهم مسؤولون بشكل مباشر عما يخرج من بين أيديهم من تقارير او شهادات طبية، ونحن بدورنا سنواجه صعوبة كبيرة اذا اردنا التحقق من صحة ما يصدرونه من شهادات خلو من الامراض على اعتبار ان مسألة التحقق هذه تتطلب امكانيات تفوق قدراتنا، وتشكل عبأً على المواطن وأيضا على وزارة الصحة ".

وشدد الوزير أبو مغلي على ان وزارته ستلجأ الى الآلية البديلة التي تتيح لها الامساك بزمام المسؤولية المباشرة عن محتوى التقارير والشهادات الطبية الصادرة عن الاطباء في حال ثبُت لها وجود كم كبير يفوق الحد المعقول من الشهادات المزورة التي لا تستند على الحقيقة في محتواها، منوها الى ان المخالفات والتجاوزات بهذا الشأن لا تخرج عن كونها حالات فردية فقط، ولا تزال ضمن الحدود المتعارف عليها.

عدم وجود كم كبير من الشكاوي لا ينفي وجود مشكلة
الكشف عن شهادات "خلو من الامراض" المخالفة لأعراف واخلاقيات مهنة الطب، ووصول اعدادها الى كم كبير يدفع وزارة الصحة بالتالي الى الاضطلاع بالمسؤولية المباشرة عن محتواها، لن يتأتى بشكلِ مجدٍ الا من خلال ورود شكاوي عديدة لوزارة الصحة او لنقابة الاطباء من قبل المواطنين انفسهم، الا ان "المشكلة عندنا، أن مجتمعنا للأسف في هذه الحالات لا يلجأ للشكوى، وهذا غلط بحد ذاته.. فنحن نشجع الناس على ان يتقدموا بشكوى بحق اي طبيب يتصرف بهذه الطريقة المرفوضة من قبلنا"، بحسب ما يقول نقيب الأطباء الفلسطينيين، الدكتور جواد عواد، والذي يؤكد ان نقابة الاطباء على استعداد تام للتعامل مع أية شكوى تصلها من أي مواطن وذلك من خلال لجان الشكاوي الفرعية والمركزية التابعة للنقابة، وايضا من خلال قانون العقوبات في النقابة والذي يشمل الطبيب الذي يصدر تقريرا كاذبا.

 ولعل إحجام المواطن عن التقدم بشكوى ضد الطبيب الذي يصدر شهادة خلو من الامراض بشكل مخالف لمسلكيات مهنة الطب يعود الى ان المواطن نفسه منتفع بالدرجة الاولى من اصدار هذه الشهادة بأقصر وقت وبأقل جهد ممكن، بغض النظر عن النهج او الطريقة التي صدرت وفقها. "ما يعنيني ويقلقني هو أن انهي المعاملات والوثائق المطلوبة مني بما فيها شهادة الخلو من الامراض، بأسرع وقت.. ولا يهمني كيف"، هذا ما يقوله الطالب عمر صلاح (19 عاما) من بلدة الخضر قضاء بيت لحم، بينما تتساءل الطالبة الجامعية غادة عبد الله (21 عاما) من مدينة بيت لحم" ماذا سأستفيد من تقديم شكوى غير وجع الرأس والدخول في دوامة روح وتعال، وسين وجيم... أنا في غنى عن كل هذا...ناهيك عن أن الشكوى في معظم الحالات لن تأتي بنتيجة في ظل الفساد المستشري في مجتمعنا".

حجة مقبولة ولكنها.. تزوير واحتيال
دائرة الخروج عن اخلاقيات مهنة الطب لا تنحصر فقط في اصدار شهادات خلو من الامراض بدون اجراء الفحص الطبي المطلوب، بل تتسع لتشمل ايضا اصدار تقارير طبية كاذبة، مخالفة بمحتواها في وصف الحالة الصحية لشخص ما، سواء كان طالبا او موظفا، عما هي عليه في الواقع، لتمنحه بالتالي مبررا مقبولا للغياب عن جامعته او مكان عمله.

هذا التوجه وصفه د. جواد عواد، نقيب الاطباء بأنه "مخالفة واضحة لأخلاقيات ومسالك مهنة الطب، يكون الدافع وراءها في غالب الاحيان هو الوضع المادي الذي يعيشه الطبيب"، بينما ذهب الدكتور موسى بجالي، نائب رئيس جامعة القدس (ابو ديس)، الى أبعد من ذلك بوصفه لهذا التوجه بأنه "تزوير طبي واضح من منطلق ان الطبيب يقوم باصدار وثيقة طبية غير صحيحة مفادها ان هذا الشخص مريض ويحتاج الى اجازة ما، وهو فعليا غير ذلك". بدوره، يؤكد لطفي سمحان، المستشار القانوني في ديوان الموظفين العام في السلطة الفلسطينية ان الغياب عن العمل بناءً على تقرير طبي كاذب- وهو ما يعرف بـ"التمارض"- يعتبر احتيالاً يستوجب احالة الموظف لتحقيق انضباطي يُشَكل وفق اصول قانونية.

تباين في وجودها كظاهرة وفي مدى شيوعها
ويرى الاستاذ محمود حماد، عميد شؤون الطلبة في جامعة بيت لحم، ان لجوء الطلبة لاحضار تقرير طبي كاذب لتبرير الغياب يأتي بغرض الهروب من استحقاقات اكاديمية ملحّة، قائلا: "هذه التقارير، للأسف، تظهر بشكل قوي في اوساط الطلبة عندما يكون هناك امتحان أو تسليم بحث او تقديم عرض معين (Presentation) ". ويضيف: "بحكم تجربتي في هذا المجال وبحكم تدريسي لمساقات علم الاجتماع والتربية والتنمية الاجتماعية في ثلاث جامعات فلسطينية، استطيع ان اقول أن هذه المسألة اصبحت فعلياً ظاهرة مقلقة تختلف نسبة شيوعها من جامعة لأخرى، حيث تصل هذه النسبة في جامعة القدس (ابو ديس) مثلا الى نحو 10% من مجمل طلبة القسم الذين كنت أدرَسهم".

وبينما يقول الاستاذ غسان عباس، مدير دائرة القبول والتسجيل في جامعة بيرزيت، ان "قضية لجوء الطلبة للتقارير الطبية الكاذبة لا تشكل ظاهرة فعلية في جامعة بيرزيت في ظل القيود التي تفرضها ادارة الجامعة باعتمادها فقط تقارير الدخول والخروج من المشافي، ومنح المحاضر صلاحية تصديق او تكذيب التقارير الصادرة عن اطباء منفردين"، الا انه ومن خلال المقابلات التي اجريتها مع عشرات الطلبة في الجامعة، استنتجت وجود شبه اجماع يسود الوسط الطلابي على انه: لا يوجد طالب جامعي واحد لم يمارس أسلوب التمارض خلال حياته الجامعية ولو لمرة واحدة على الأقل.

 فهذه فاتن، الطالبة في كلية الآداب تقول: "لجأت الى هذا الاسلوب مرتين؛ الاولى بغرض حضور حفل تخرج لابنة عمي، والثانية للخروج في رحلة عائلية مع اقارب لي قدموا من الخارج، تزامنت مع يوم تقديم امتحان". وهذا وليد، الطالب في كلية العلوم يؤكد ان عدم استعداده للتقدم لامتحان في مادة الرياضيات دفعه لاحضار تقرير طبي كاذب من طبيب يعرفه مقابل 30 شيكل. وتلك أمل، الطالبة في كلية التجارة والاقتصاد تعترف ان " الظروف الاجتماعية الى جانب الاوضاع الاكاديمية تفرض احيانا على الطالب ان يكذب لتبرير غيابه عن الدراسة في الجامعة ليوم واحد او اكثر"، موضحة انها غابت فعلا عن الجامعة ليومين متتاليين، ليس بسبب مرض حال دون مجيئها، بل بسبب انتكاسة عاطفية ألمَت بها ولم تجد حجة لتبرير غيابها سوى بتقرير طبي كاذب.

ورقة رابحة ايضا في مؤسسات القطاعين العام والخاص
الصورة لا تختلف كثيرا في مؤسسات القطاعين العام والخاص عن تلك السائدة في الجامعات الفلسطينية، فالتقرير الطبي الكاذب يشكل ايضا ورقة رابحة بيد حاملها تبرر له تغيبه عن العمل.

وان كان لجوء موظفي القطاع العام الى التمارض كمبرر للغياب عن العمل لا يخرج عن دائرة الحالات الفردية فقط ولا يرتقي الى مستوى توصيفه كظاهرة، كما يقول لطفي سمحان، المستشار القانوني في ديوان الموظفين العام، الا انه "عندما بوشر بتطبيق قانون خصم (بدل المواصلات) من راتب الموظف الذي يأخذ اجازة مرضية، لوحظ انخفاض ملموس في عدد الاجازات المرضية في اوساط الموظفين، وهو ما يعتبر مؤشراً على وجود عملية احتيال"، بحسب المستشار سمحان.

أما في مؤسسات القطاع الخاص، فلكل منها سياستها وآليتها في التعاطي مع التقارير الطبية التي تُتخذ ذريعة للتغيب عن العمل. فبعض هذه المؤسسات يكتفي باحضار الموظف لتقرير طبي- قد يكون كاذبا- يبرر غيابه، بينما بعضها الآخر يولي مسألة الغياب عن الدوام لأسباب مرضية المتابعة المطلوبة، كما هو الحال في شركة الاتصالات الخلوية الفلسطينية "جوال"- أحدى أكبر شركات القطاع الخاص الفلسطيني- حيث يقوم المستشار الطبي في الشركة بمراجعة التقارير الطبية وتدقيقها للتأكد من صحتها، ناهيك عن التدقيق الذي تقوم به شركة التأمين المتعاقَد معها، بحسب ما يقول باهي صوالحة، من ادارة الموارد البشرية في "جوال"، والذي يؤكد ان مسالة التغيب عن الدوام لأسباب مرضية في الشركة لا تشكل ظاهرة ولم تتجاوز نسبتها 1.86% من مجمل أيام الدوام للعام 2010.

للطبيب ايضا مبرراته ووجهة نظره  ....
تقرير طبي كاذب من أحد الاطباء قد يكون وسيلة ناجحة أمام الطلبة والموظفين على حد سواء، لتبرير غيابهم عن الدراسة او العمل، وهو ايضا "وسيلة مربحة للطبيب، لا تكلفه سوى بضع دقائق من وقته وبعض الحبر من قلمه، ولا يمكن اعتبارها بأنها خروج عن اخلاقيات مهنة الطب كما يدعي البعض، بل انها تأتي في اطار الخدمات التي يقدمها الطبيب للمواطن بشكل عام مقابل مبلغ بسيط، وأحيانا بدون مقابل من منطلق التعاطف الانساني مع الطالب او الموظف". بهذه الكلمات علَق الطبيب الذي وصلت لعيادته بمدينة رام الله بمساعدة صديق جامعي تربطه به علاقة ما، وكشف قيامه باصدار عشرات التقارير الكاذبة لطلبة جامعيين لجأوا اليه لتبرير غيابهم.

 واضاف الطبيب - الذي رفض الكشف عن هويته أو حتى الاشارة اليه بالاحرف الاولى من اسمه - ان الطالب او الموظف الذي يلجأ اليه لعمل تقرير طبي كاذب هو من يتحمل تبعات الكذب الوارد في التقرير، معتبرا ان ما يقوم به الطبيب في هذه الحالة هو بمثابة خدمة يقدمها لطالبها ويستحق ان يتقاضى عليها مبلغا يسيرا من المال، هو في متناول الجميع ولا يشكل مشكلة لأحد.

تعددت الأسباب والمصدر واحد
تتعدد التقارير الطبية الكاذبة بمحتواها، وتتعدد الجهات التي تصل اليها، كما تتعدد الاسباب الخفية الكامنة وراء طلبها ومحاولة الحصول عليها واصدارها، ولكن يبقى الطبيب الذي تخرج تلك التقارير من بين يديه، هو نقطة التقاطع المشتركة التي تتجمع عندها كل الدوافع والمبررات.

وفي ظل صعوبة التحقق من صحة التقارير الطبية الصادرة عن الاطباء–كما يتفق على ذلك وزير الصحة د. فتحي ابو مغلي، ونقيب الاطباء د.جواد عواد، ومدير دائرة التسجيل والقبول في جامعة بيرزيت الاستاذ غسان عباس، وعميد شؤون الطلبة في جامعة بيت لحم الاستاذ محمود حماد، والمستشار القانوني في ديوان الموظفين العام لطفي سمحان- تبقى الثقة والالتزام بشرف المهنة واخلاقياتها هي الارضية التي تقف عليها مسألة تصديق ما يصدر عن الاطباء من تقارير.  

"فالغالبية العظمى من الاطباء لا يقبلون على انفسهم النزول الى مستوى يُخرجهم عن اخلاقيات مهنتهم لانهم بذلك يقللون من قيمة انفسهم بالدرجة الاولى"، كما يقول د. جواد عواد، نقيب الاطباء. ويتفق مع هذا القول الاستاذ محمود حماد، عميد شؤون الطلبة في جامعة بيت لحم، والذي يؤكد ان الطبيب الذي يلجأ احيانا للتجاوب مع بعض الحالات- انطلاقا من مجرد التعاطف معها- باعطائها تقريرا طبيا كاذبا حتى لو لم يكن في ذلك اي مردود مادي له، فانه لن يكون بذلك قد قدّم خدمة لهذه الحالة او تلك، بل على العكس، يكون قد أساء لها لأنه بهذا عزز قيمة سلبية عندها، وهي الكذب والتهرب من الالتزام والمسؤولية.

كما تزرع تحصد ....
الطبيب الذي خرج عن اخلاقيات مهنته في تلك الحادثة التي أوقدت في نفسي شعلة البحث والاستقصاء، ودفعتني لكتابة وإخراج هذا التحقيق الصحفي الى الوجود، تم استدعاؤه للجنة تحقيق حيث اعترف بالخطأ الذي ارتكبه، ووقّع على تعهد رسمي بخط يده بعدم تكرار فعلته تلك، وبالالتزام بتعليمات وزارة الصحة، وبتحمل المسؤولية الاخلاقية والقانونية كاملةً عن أي خلل قد يرتكبه في المستقبل. أما الموظف، فقد تم توجيه إنذار نهائي له، وتقرر نقله الى مديرية صحة العيزرية بضواحي القدس كإجراء تأديبي له، وتغيير مسماه الوظيفي بشكل يبعده عن التعامل مباشرة مع الجمهور.

هذه الاجراءات التي جاءت كرد فعل من المسؤولين في وزارة الصحة على الشكوى الرسمية التي قدمتها للدكتور محمد عيسى رزق، مدير مديرية صحة بيت لحم، أطلعني عليها الدكتور أسعد الرملاوي، مدير عام الرعاية الصحية الاولية بوزارة الصحة، خلال اتصال هاتفي اجريته معه أمس، الثلاثاء.

وفي ختام هذا التحقيق الاستقصائي، لا أجد قولاً أفضل مما جاء على لسان الدكتور الرملاوي خلال حديثي معه: "نحن لا ندّعي الكمال، ولا بد ان يكون بين صفوفنا اناس مرتشون او فاسدون، لكن المهم، كشف هؤلاء الناس بالتعاون فيما بيننا "......

ليست هناك تعليقات: