المال الأوروبي في دوامة السياسات المتضاربة... وسيلة إحياء وثقافة استجداء

26-01-2010

محمد خالد /" الله يديم علينا هالنعمة وانشالله ما بتنقطع…والله لولا هالألف شيكل (200 دولار) ما كنا راح نعيّد متل الناس" ، بهذه العفوية التي ترتسم على ملامحها معالم الابتهاج، وتخفي تخوفٍا دفينا، استقبلت الحاجة "أم محمد" –التي تقطن مخيم الأمعري للاجئين بالقرب من رام الله- الخبر الذي زفته إليها جارتها "أم عصام" حول وصول الدفعة الجديدة من المخصصات الاجتماعية عبر "آلية بيغاس" التابعة للاتحاد الأوروبي والتي تستهدف العائلات المحتاجة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

شأن "أم محمد" في ذلك شأن الآلاف من الأرامل والأيتام والمعوزين والمهمشين، ومن دفعتهم ظروف الحياة القاسية تحت الاحتلال إلى ما دون خط الفقر، وباتوا ينتظرون بشغف موعد استلام مخصصاتهم التي تأتي مرة كل ثلاثة أشهر عبر هذه الآلية التي أطلقتها المفوض الأوروبي بينيتا فريرو- فالدنر في شهر شباط من عام 2008 لتوفير الدعم للشعب الفلسطيني "من منطلق التزام الاتحاد الأوروبي بدعم السلطة الفلسطينية في جهودها لمحاربة الفقر ومكافحة الإقصاء عبر توفير خدمات اجتماعية فعالة تستهدف الأكثر فقراً وعوزاً من الفلسطينيين"، بحسب ما جاء على لسان كرستيان بيرغر، ممثل الاتحاد الأوروبي في اراضي السلطة الفلسطينية.

ولا يقتصر الأمر على هذه الفئة، فهناك موظفو الخدمة المدنية في السلطة الفلسطينية والمتقاعدون الذين تصرف رواتبهم ومخصصاتهم عبر "آلية بيغاس" والتي يدخل تحت مظلتها أيضاً دفع الديون المتراكمة على السلطة الفلسطينية لصالح القطاع الخاص، ودفع فاتورة تكلفة الكهرباء المستوردة من خارج قطاع غزة، إلى جانب فاتورة التحويلات الطبية للمرضى الذين أصيبوا بجراح خطيرة خلال الحرب الأخيرة على غزة في مستشفيات متخصصة في دول المنطقة، أضف إلى ذلك توفير التمويل اللازم لمئات مؤسسات العمل الأهلي-أو ما يُعرف بمؤسسات (NGO's)، ولمشاريع تنموية متنوعة في مختلف المناطق الفلسطينية.

ملايين اليوروهات تُضخ سنويا لفلسطين
تمويل ضخم يصل إلى نحو 400 مليون يورو يجري ضخها سنويا في الأراضي الفلسطينية من قبل الإتحاد الأوروبي "لإضفاء الاستقرار في المنطقة وإبقاء السلطة الفلسطينية على قيد الحياة من أجل إنجاح عملية السلام"، بحسب ما عبر عنه ماركوس كورنارو، مسؤول منطقة أوروبا وجنوب المتوسط والشرق الأوسط وسياسة الجوار في مكتب التعاون التابع للمفوضية الأوروبية. يأتي هذا في الوقت الذي وصل فيه "حجم استثمار المفوضية الأوروبية لوحدها في مشاريع تنموية وفي صورة دعم مباشر لموازنة السلطة الفلسطينية منذ عام 2000 إلى نحو 3.5 مليار يورو"، كما جاء على لسان مساعد رئيس المفوضية العامة لفلسطين في بلجيكا، المستشار عادل عطية الذي يرى أن "المساعدات الأوروبية ساعدت السلطة الفلسطينية فعليا على البقاء على قيد الحياة إلا أنها لم تساعد الفلسطينيين على العيش بدون احتلال، إنما ساعدتهم على التعايش مع هذا الاحتلال".

ولعل فيما قاله المستشار عطية إقرار ضمني بفشل سياسة الاتحاد الأوروبي في إيجاد حل للنزاع العربي الإسرائيلي ولقضية الشرق الأوسط الأساسية. فدول الاتحاد الأوروبي تتقاذفها سياسات مختلفة على الرغم من تقاطعها في مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، كما يغيب عن الاتحاد برمته سياسة موحدة وتوافقية فيما يتعلق بطريقة التعاطي مع ملف الشرق الأوسط. "سياسات معقدة وانقسامات في المواقف" عزتها المحللة السياسية في المركز الأوروبي للدراسات، روزا بالفور، إلى عوامل تاريخية بحتة، بينما عزاها صحفي عربي بارز ومعتمد في بروكسل إلى "مصالح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي سواء ما تعلق منها بالأمن أو بالاستقرار الاقتصادي أو في مجال الطاقة".

الفلسطينيون لا ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي على أنه عملاق اقتصادي يقتصر دوره فقط على تمويل المشاريع على مسارات متنوعة، وعلى تقديم المساعدات لدول الجوار وخاصة فلسطين، "هذه المساعدات لكي تكون ناجعة وتؤدي الهدف المطلوب يجب أن تتزامن مع قرارات سياسية ملزمة"، كما يقول المستشار عطية الذي يرى أن "الاتحاد الأوروبي يملك الأدوات الكافية لممارسة ضغوط على إسرائيل لإنهاء الاحتلال والاستيطان وتنفيذ القرارات الدولية إلا أنه يفتقر إلى الرغبة السياسية الحقيقية جماعياً وفردياً". رؤية مناصرة هذه تنسجم تماماً مع رؤية السيدة روزا بالفور عندما قالت أنه "إذا أراد الاتحاد الأوروبي أن يسلط ضغطاً على حكومة إسرائيل لكان من الممكن أن يفعل ذلك نظراً لحجم الروابط التجارية معها، إلا أن التعاطف مع إسرائيل هو سيد الموقف.

قبل انتهاء الرئاسة السويدية للاتحاد الأوروبي جرى اعتماد موقف من قبل رؤساء الدبلوماسية الأوروبية حول الشرق الأوسط يشكل عصارة كل المواقف المتقدمة بشأن هذا النزاع، وهو: عدم الاعتراف بالأمر الواقع الذي تحاول إسرائيل فرضه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتأكيد على ضرورة أن تصبح القدس عاصمة للدولتين. إذاً هو مجرد موقف – وإن كان الأفضل الذي اتخذته الدبلوماسية الأوروبية في هذا النزاع منذ سنوات-إلا أنه يفتقر إلى الرغبة الحقيقية في استخدام أدوات التأثير اللازمة لفرض حلول. فلا نية لدى الاتحاد الأوروبي لممارسة أي ضغط على إسرائيل، بحسب المحللة السياسية روزا بالفور، ولا يوجد على أجندته فرض أية عقوبات بالمعنى القانوني على إسرائيل على الرغم من الدعاوى القضائية التي رفعتها جهات أوروبية غير رسمية ضد مسؤولين إسرائيليين على خلفية الحرب الأخيرة على غزة، والحملات التي تنظم ضد تداول المنتجات الإسرائيلية في الأسواق الأوروبية، وردود الفعل الصاخبة حول ما أفرزه تقرير غولدستون.

تُرى كيف ينسجم ذلك مع ما قالته بينيتا فريرو- فالدنر، المفوض الأوروبي للعلاقات الخارجية وسياسة الجوار الأوروبي، أنه "إذا ما تخيلنا بكل شغف أنه بالإمكان تحقيق الإنعاش والتنمية والإزهار والعدالة المستدامة في ظل احتلال ونزاع مستمر، سنكون بكل بساطة قد ارتكبنا أخطاء الماضي مرة أخرى".

سياسة متناقضة للاتحاد الاوروبي
كثير من المراقبين يرون تناقضاً واضحاً في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي الذي اندفع مبكراً للعمل من أجل حل سلمي للنزاع العربي الإسرائيلي من منطلق إدراكه أن مصيره مرتبط نوعاً ما بما يحدث في الجزء الجنوبي من حوض المتوسط، بدءاً بالحوار العربي الأوروبي في سبعينيات القرن الماضي مروراً بمسلسل برشلونة عام 95 وصولاً إلى مجموعة من الاتفاقات التجارية والتعاون مع دول المنطقة، والاتحاد من أجل المتوسط حديثاً.

وفي ظل غياب سياسة توافقية لدى الاتحاد الأوروبي وإسقاطه أدوات الضغط والتأثير وتوجهه فقط لتحمل أعباء الداعم المالي لمسلسل السلام أو ما تبقى منه بعيدا ً عن لعب دور ريادي في المنطقة، وانفراد إسرائيل باللعب في الساحة السياسية كما تشاء، أضحت المساعدات التي يقدمها الاتحاد الأوروبي للفلسطينيين بمثابة ثقافة استجداء لديهم إلى جانب كونها وسيلة إحياء وإبقاء. فالحصار المضروب على الأراضي الفلسطينية بعد بناء الجدار الفاصل واندثار آفاق الاستثمار بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، واقتصار سوق العمل الإسرائيلي على استيعاب جزء يسير من الأيدي العاملة الفلسطينية دفع بالكثيرين إلى سلوك أحد اتجاهين لا ثالث لهما سوى الهجرة، إما الانخراط في مؤسسات الخدمة المدنية أو العسكرية التابعة للسلطة الفلسطينية أو العمل في أحدى المؤسسات الأهلية غير الحكومية والتي تحظى بالنصيب الأكبر من المال الأوروبي. وفي كلا الخيارين، فأن اليد ممدودة لاستجداء التمويل من الاتحاد الأوروبي باعتباره الجهة المانحة الأكبر للشعب الفلسطيني برمته.

لعل شذرات التخوف الدفين التي تسري في مكامن نفس الحاجة "أم محمد" من انقطاع الدعم الأوروبي يوماً ما، لها ما يبررها إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مجموع التيارات الجارفة من كل اتجاه والتي تهدد جيش الفقراء الفلسطينيين، إلا أن هذه المخاوف بددها مدير العلاقات الخارجية وجنوب البحر المتوسط في المفوضية الأوروبية، توماس دوبلا ديل مورال، عندما قال أن "وضع فلسطين استثنائي وتمويلها سيبقى قائما لن ينقطع".
 
 

ليست هناك تعليقات: